20 إبريل 2024 م


12 ديسمبر 2019 م 1580 زيارة
بقلم آمين تاكي لقد ذهبتُ في اسبانيا لمشاهدة مصارعة الثيران بداخل الحلبة. المبنى دائري مكون من خمسة طوابق ، تتوسطه ساحة كبيرة. صعدتُ الى الاعلى عبر السلالم الصغيرة ، كأني في سجن يقبع على احجار قلعة قديمة مشؤومة انا على مايبدو كنتُ العربي الوحيد هناك ، وكنتُ اتابع سيري عبر المداخل المؤدية لصفوف المشاهدة ، حتى وصلتُ الى الصفوف العُليا للساحة ، لكني رأيتُ ان الصفوف الامامية شبه فارغة ، فقررتُ تغيير مكاني اُخاطر بالنزول ، واتدحرج مثل برميل الى ان وصلتُ للمقاعد الاولى للصفوف الامامية ، فأجد نفسي في مشهد بديع. الساحة الصفراء امامي ، ورائحة الخيول والثيران تصل بقوة الى انفي. فيزداد شرودي الواسع اصلاً لا اتوانى عن التصفيق والتصفير تشجيعاً للمصارعين ، ثم الصراخ بعشوائية كالمجانين الحركات البهلوانية التي يفعلونها المصارعون بالرداءت البنفسجية والصفراء مثيرة ومُبهجة ، مثل التي كنتُ اشاهدها في الافلام. تلك التي لم اكن اتخيل مشاهدتها في الواقع ابداً يخرج الثور بقوة ووحشية من خلف البوابة الخشبية راكضاً بإتجاه المصارع الذي يُلوِح له بالرداء البنفسجي الفاتح ، فيرفع المصارع الرداء بحركة ساحر بهلواني في السيرك ، ويلتف رافعاً يده ، مقدماً إحدى رجليه الى الأمام. فنصرخ جميعاً ويزداد الحماس. وانا مستمتع بالمشهد الحي والعظيم يالروعة هذا الصخَب المشاجرة جميلة جداً ، عظيمة. دعوا الثقافة والتمدُن والحضارة ، لا تَدّعوا التهذيب وتقِفوا ضد الطبيعة. فالمشاجرة رائعة ، بغض النظر عن كل شيء. اجمل من مطارحة الغرام مع اي فتاة حسناء. ومن يَدّعي عكس ذلك ، فإنه مريض نفسياً ، لن يُشفى حتى لو كان فرويد طبيبه الشخصي يغرز المصارع سهمين على رقبة الثور ، ويقفز الدَم كحُمم البركان من رقبته ، فيقفز المشجعين كالمغفلين : عظيم.! رائع.! احسنت.! بَطَل ، في بطولة لا معنى لها بالضبط انظر الى الناس بدهشة ، اراهم مبتسمين ومتحمسين ، كأنني في مسرح تمثيلي.! وفجأة ، يغرز المصارع سيف نحيل في اعلى رقبة الثور حتى يصل الى بطنه.! فإذا بي اشعر بالطعنة في بطني لم اكُن اتخيل ان مصارعة الثيران بهذا الشكل من الإجرام والوحشية. انظُر للجماهير ، ولا اُصدِق. الجميع يصفقون بحرارة ويصرخون منتشيين تحية للمصارع المغوار لايدوم انبهاري كشخص يشاهد هذا العنف لأول مرة ، فأخضع لإنبهار أشد عنفاً. إذ يُخرِج المصارع خنجراً من جيبه ، فيطعن به رأس الثور عدة طعنات.! حتى يسقطه الثور أرضاً "مشلول" ، فيتم سحبه من الساحة الى الداخل بأربعة احصِنة ، والجماهير تصرخ من الحماس ، ويتقافزون فرحاً كالممسوسين بالجِن إنه قمة الإرهاب تملّكني الإحساس بالشفقة على الثور القتيل ، لم اكن ارى تلك المشاهد إلا على صفحات المجلات ، ومقاطع صغيرة غير عنيفة في الافلام. والان ارى الحقيقة على الهواء مباشرة. اللعنة على لغة الإنسانية اللبِقة ، اللعنة على جمعيات الرفق بالحيوان التي يتغنى بها الاوروبيين كُنت في مدريد وسط الفتيات العاريات ، لكنني شعرتُ بوجودي في مجتمع داعش ، او ربما في مجتمع اكثر بشاعة. مكان يستحيل العودة إليه مرة اخرى ، حتى لو دفعوا لي المال مقابل ذلك تسمرتُ في مكاني ، لايحيد بصري ، كأنني ميت ومُحنط في مكاني حين رأيت الثور الثاني يدخل الى الحلبة ، والجماهير تصرخ فرحاً.! إستقبَلَ الثور احد المصارعين ، بطعنة رمحين مُزركشَين في رقبته ، ثم أتى مصارع آخر فوق حصان ، فغرَزَ صنارته بوحشية على رقبة الثور ، والمصارعين يُنهِكون الثور بتحريكهم الرداءات الحمراء يميناً وشمالاً ، والثور يركض بإتجاههم في الحلبة اشاهد على الهواء مباشرة وقائع فظيعة ، تسلب مني حواسي. احد الثيران يركض بإتجاه احد المصارعين الواقفين جوار مخبأ خشبي صغير ، لعله كان يفكر بالقفز خارج الحلبة ، لكن المصارعين الآخرين يغربلون رقبته بسلسلة من السهام والسيوف ينزلق الثور على نحوٍ خطير حتى يصل الى العارضة التي يختبىء خلفها اثنان من المصارعين ، فيصطدم رأسه بتلك العارضة الاسمنتية الثخينة التي يستخدمونها لتثبيت السياج الخشبي ، فتخيلوا يلفظ روحه امام عيني شعرتُ بألم في بطني ، ونسيتُ اين انا ، وهذا لايهمني ابداً. شعرتُ بضرورة التقيؤ ، وفجأة ، اكتشف ان فتاة جميلة جالسة الى جواري ، لم اكُن منتبهاً الى وجودها اصلاً اسندتُ ظهري الى الخلف برِفق ، لأخضع لغثيان وحزن في آنٍ واحد. كانت تُربة الساحة صفراء ، والدماء واضحة عليها تتجلى الفتاة بسيقانها وفخوذها العارية امامي ، لكن روحي تخوض غمار بحرٍ هائج. لم اشعر بأي رغبة جنسية تجاهها ، او في تلك اللحظة على الاقل مشكلة الأناس الذين مثلي ، انهم حين ينشغلون بشيءٍ ما ، لايعرفون القيام بأي شيءٍ آخر. لايستطيعون ان ينسوا الأمر. وهكذا لم استطع التحدث معها ، برغم انها كانت وحيدة ، ولم أُفكر إنما كنت اركز النظر الى تلك المشاهد العنيفة حصراً ، بنبضات قلب متسارعة. كنتُ انتظر ان يموت احد الثيران بسكتة قلبية بكل بساطة ، كأنني احد الاطفال في سِن السادسة كان عِطر الفتاة ينساب منها دون ان تعي ذلك ، فكنتُ منشغلاً بالتفكير في عطرها والرداءات الملونة التي يحركها المصارعين امام الثور نظرتُ إليها ، كانت فتاة جميلة قادرة دون شك ان تُبطل مفعول أي لُغم. قادرة ان تفرض أوامر حاسمة على كوكبة المصارعين بالتوقف عن قتل الثيران. قادرة ان تضع النقاط على الحروف بعطرها فقط كنتُ على يقين بأنها جاءت عن طريق الخطأ الى هذه الحلبة ، وان العنف غير موجود في قاموسها. انا من عليه تنبيهها بأن هذا المكان لايتماشى مع مفهومها للحياة لكنها تصعقني بأنها لم تشعر بالإنزعاج او الشفقة على الثيران ، بل كانت تنظر الى المشهد ببساطة ، كأنها قد رأت هذه المشاهد مراراً ، ثم تُصفِق للأبطال الشجعان اما انا ، فقد اصابني الخرس والصرير في أُذناي ، بعد ان رأيتها تُصفِق. انا من عليه ان يرتب اوراقه ، لكني لم اكُن قادراً على وضع الخطط ، لشدة التيه المحتم من تلك المشاهد بعد ان تم قتل خمسة من الثيران امام عيني ، خرجتُ من الحلبة ، ومشيتُ على غير هدى. مثل احصِنة البحر نظري الى الاسفل ، اتأمل بتركيز مثل افلاطون ، ولكن دون إعمال العقل في اي فكرة ، سوى كلمات غير مترابطة تجول في الذهن كنتُ اشعر بالغربة والحزن ، والخوف من جميع البشر في اسبانيا. فالحياة تتغير وتنهار امام عيني ، وانا ما ازال مثل العذراء. اللعنة لقد انهار معنى الإنسانية ، عُدتُ الى ارض اكثر بشاعة من ارضنا العربية ، واتخيل : كيف ينتهي يوم اولئك المصارعين بعد ان عذبوا وقتلوا حيوانات بريئة ، ولونوا ملابسهم والساحة الصفراء بلون الدم الاحمر كيف تنتهي ليالي المشاهدين؟ هل يستلقون على أسِرة في غرف مزودة بشُرفة؟ ثم يتلوا مشاهد القتل هذه عروض جنسية حميمية؟ لايخصني الأمر لكني لم اتألم كهذا قبل هذا اليوم في مدريد
الهاشتاج
الفيس بوك
تويتر

جميع الحقوق محفوظة World News ---- تصميم وبرمجة ALRAJIHI