29 مارس 2024 م


11 فبراير 2020 م 1679 زيارة

WORLD NEWS
عربيه-: بقلم امين تاكي 


إبتدأ درس اللغة الألمانية اليوم بالتحدث عن العُمر. كم عمرَك ، كم عمرِك ، في أي تاريخ تم إخراجك من رحم والدتك إلى الدنيا المقيته ، والتي كان بدورك أن تكون فيها رغماً عنك. دون خَيار بالمجيء من قبل. دون تحديدك لمجتمعك الذي ستعيش فيه وديانتك ولغتك ، وحتى والديك

إبتدأ الدرس ، بإفتتاحية درامية وتراجيدية عميقة ، تظاهي عمق بئر قديم ومُظلم ، يُخفي بداخله مشاعر وذكريات أكثر سواداً من البئر نفسه. لايمكن نسيانها حتى لو كان عمرها آلاف السنوات

أستاذتنا هناء. والبالغة من العمر ستة وسبعون سنة ، متقاعدة عن العمل منذ العام 2015 لكنها تخشى البقاء في المنزل. لذا ، فهي تعمل متطوعة تعليم اللغة الألمانية للمهاجرين في الكامب الذي أعيش فيه الآن ، كي تملأ وقت فراغها. منفصِلة عن زوجها ، أُم لثلاثة نساء ورجُلين. يعيش كل منهم مع عائلته في منزل منفصل

ولِدَت في مدينة هامبورج اثناء الحرب العالمية الثانية ، مات والدها وأختها في الحرب ، فانتقلت مع بقية إخوتها ووالدتها إلى ميونخ
تستذكِر ماضيها حين كانت طفلة ، تقِف أمامنا بعينين تفيض بالدموع ، فترى والدها حين كان في عُمرنا ، وترمُقنا بعين ودود

أُشتِت إنتباهها بالنهوض ، أحتضنها ، تتلاصق صدورنا بشدة إثر ضمتها لي. أُحرِك يدي على ظهرها ، فترى منزلها القديم حين تحتله الشمس النقية التي تتسلل من تلك النوافذ الموصدة التي كانوا يُصلحونها بحبل يرفعها إلى الأعلى
تسمع صوت المِصراع يهوي إلى الأسفل ببطء مُصدِراً صريراً ناعماً ، يمر خِلاله النهار بعفوية لم نعد نشعر بها

تنساب دمعة هناء على تكفي ، فأفهم بأنها تبكي. لكنها تُغمض عينيها. أضمها بِشدة ، فترى أُمها تدخل الى البيت عند السابعة مساءً حاملة بيدها علبة كبيرة. لقد إشترت لها جزمة حمراء اللون بسعر منخفض ، في عيد ميلادها السادس عشر. كانت ترغب بها أكثر من رغبتها بأي ولد

ثم تتذكر بعد لحظات أن تلك الجزمة كانت آخر هدية من والدتها. تشعر بألم في معصميها المخدوشين من حبل النافذة ، لأنه كان ثخين ومصنوع من نسيج يُمزق الأيدي. تُنزِل يديها من أكتافي وتبتعِد عن حضني ، ننفصِل عن بعضنا ، وتذهب للوقوف أمام لوح السبورة

تنظر إليّ من بعيد ، وتضع يدها على خدها الناعم ، فتتذكر خد زوجها الخشِن. وفي لحظة واحدة تكبر ، لتصبِح إمرأة. بعد إكتشافها لعطر مابعد الحِلاقة المُذهِل. وكأن السنين لاتمضي
تُصبِح إمرأة في عائلة عاملة ، وبعد الألم يطبِق عليها الرخاء

تسألنا عن أعمارنا بطريقة تحريك يديها كالمُهرجين ، لكنها تبكي بصمت ، لأنها تتذكر التالي : أيام مُراهقتها تُدمِر سراح أفكارها ركلاً ورفساً عنيفاً ، لكن المشهد كان فوضوياً أكثر من شدة محاولة إخفائه

إنتهى الدرس بعد ساعة ونِصف ، وكمن يدخل في دوامة ، لايخرج منها ، هناء تجلس على الكرسي وتسند ظهرها إليه ، فترى نفسها مستلقيه على سريرها الفردي حين كانت شابة ، تُحدِق في النجفة ذات الطراز النحاسي ، وضوءها الذي يبُث الكآبة

تتخذ قراراً رهيباً في يوم ربيعي. تفتح خِزانتها بعينين مُصفرتين من الضجر والدموع ، تنتعِل تلك الجزمة الملعونة ، وترتدي تنورة قصيرة جداً ، لأنها تعلم بأن ساقيها جميلتان 
تأخذ حقيبة اليد وثلاثة ماركات ، وتخرج من البيت

ماتزال الشمس في كبد السماء خلال ذلك الربيع الهانئ. أثقلتها العهود ، لكنها تمشي برأس مرفوع. يلتفِت نحوها الشبان ، لكنها تتجاهلهم ، ولا تنتبه لوجودهم أيضاً. لديها هدف مُحدد : محل التبغ

تدخُل بجرآءة ، كأنها بلغت سن الرشد. وبالفعل ، لم يسألها بائع التبغ عن عمرها ، فيما تلفظ كلمتين تُغيران إيقاع أيامها إلى الأبد : "علبة مارلبورو"

أحيد بصري إلى الطاولة التي أمامها ، فأرى علبة المارلبورو ماتزال تلازمها ، والى جانبها ولاعة ملفوفة بجلد مُزيف
لاتُقلِع عن التدخين ، كي لا تكفُ عن النسيان

وقبل أن أُصدِع رأسها بمشكلة التدخين ، تذكرتُ أصالة الألم. فمددتُ ورقتي أمامها كي تضع عليها ختم الحضور. تبادلنا النظرات مرة أخرى ، ببسالة تنشد التجربة

ثم تبادلنا إبتسامة رائعة وحنونة كأحداث هذا اليوم الحنون ، وخرجنا من غرفة الدرس منتعشين
هذا تأويل تلك الإبتسامة

فتَحَت باب الخروج ، وعاودت الذكريات هجومها عليها من جديد. فكرتُ أن أراقبها من النافذة ، وهي تقِف في المكان المخصص للتدخين ، بينما كانت تُشعِل سيجارة المارلبورو
بحرفية عالية

الهاشتاج
الفيس بوك
تويتر

جميع الحقوق محفوظة World News ---- تصميم وبرمجة ALRAJIHI