25 إبريل 2024 م


29 ديسمبر 2019 م 1142 زيارة

بقلم امين تاكي

إنها تُمطِر
السماء تتمزق والنهر يغرق

كما تُقلَب الصخور من شاحنات النقل ، ستقلِب الدنيا بعد يومين إثنا عشرة شهراً عشوائياً من عمرها وعمري. أعماركم ، وأعمارهم.. 
إثنتا عشرَ شهراً قضيناها كما تأتي الرياح. فضَرَبَت وجه حياتنا أحداثاً بعضها ببعض ، كمِصراع النافِذة المفتوحة في وجه عاصفة الريح

أكتب لكم ، أنا امين تاكي. من تحت البطانية ، فوق سرير أبيض حديدي ، خلف المِدفأة الكهربائية ، في غرفة كان يعيش بها جنود هتلر.
بالمحصلة. أنا أعيش بداخل قاعدة عسكرية ألمانية قديمة

تمتزِج أفكار كثيرة عن 2019 في رأسي كحبات الفواكة في الخلاط ، لكنها تذوب كقطعة ثلج تحت اشعة الشمس وتختفي تماماً ، كلما حاولتُ إلتقاط الفكرة الأولى والكتابة عنها. إنني مُشوَش التفكير مثلما حين يعشق أحدكم لمرة واحدة في حياته. ومن مِنا لم يعشق لمرة واحدة في حياته؟ على الأقل

أعيش حياة متواضعة هُنا في المانيا ، فهذا البلد الأوروبي جميل وعزيز على القلب. لاستائر على النوافذ ، والحياة فيه هادئة وعقلانية. لا أُخفي أنني أشعر بالملل كثيراً واشعر بالخوف من شبح الحياة الأوروبية المُرهِقة ، غير أنني على يقين بأن الإستسلام للحنين ولِما أُسميه بغريزة الشعور بالفقدان سيهدم ذلك الحِصن المنيع

لكن المُجريات لم تكُن بهذا الإنتظام الكامل ، فالحياة الجديدة ليست حتمية في تبدلاتها. الحياة الأوروبية ليست واضحة كما يريدون لنا أن نعتقد

لقد تركتُ اليمن منذ سنتين ونصف ، ومازلتُ محافظاً بحزم على قراري بعدم العودة إلى الوراء. ومن جهة أُخرى سمحتُ لنفسي بالقليل من متابعة أخبارها العابرة والتواصل مع الأهل. لكن قريحتي الوطنية إضمحلّت ونفسيتي إرتاحت ولم أندفع وراء موجة الحنين السخيفة للبلد اليمني كما يفعل بعض المهاجرين

أقلعتُ عن التدخين ، وشعرتُ بأنني نقيٌ أصيل. وإنعدَمَ الفساد الذي إعتدتُ عليه في اليمن ، لكنه لم يختفِ تماماً. يبقى مثل الحراس عند بوابة الملهى ، ولايمنعه شيء من الدخول حين ينصرف الزبائن ، لينهال عليك باللكمات وأنت وحيد وسكران. قد يختفي الفساد ، ولكن بشكل نسبي. إنها مسألة وقت ، إلا إذا جاء الموت قبل أوانه

أول خمسة أشهُر لي في اوروبا ، قضيتُ منها نصف شهر في مُخيَم اللاجئين (مليلية) بالجانب الأفريقي على الحدود المغربية الإسبانية. ثم شهرين في ذلك المكان الملون والجميل (مدريد) حيث تعيش ملايين النساء من حول العالم فائقات الجمال 

قضيتُ شهراً آخر وانا أُحارب البرد في حضيرة الخنازير الممزقة والمُسماة (سويسرا) ولكن صدقوني ، إنها معركة خاسرة
لكن السويسريون يقاومون أكثر من الدبابات

تشردتُ بعد ذلك نصف شهر في شوارع مدريد. كنتُ عملياً أتحدى برداً هائجاً ، كأنني في عرض المحيط. فالرياح هناك تقذف قطرات المطر بقوة على جسدي ، على إيقاع سوريالي ، والنجاة من ذلك البرد كان يبدوا كالحلم

أشعر بالراحة الآن منذ شهر هُنا في المانيا ، قسماً برأس ماما أنجيلا ميركِل. أتمشى في الشوارع وأشعر بالريح وروائح الشجر. وقد تهطل الأمطار ، فأحس بأنها ستُمطِر فوقي معنى جديداً للحياة ، عاصفة من البساطة ، هذا ماكنتُ أبحث عنه. مثل أُمي

شدوا وثاقي. فإذ أقول أمي ، أُصبِح عبداً لذكراها. شدوا وثاقي إن رأيتموني أغرق في الشاعرية الوردية والمملة. 
أنا في حصانة من لاشيء ، أعرف ذلك. لأن أمي ماتزال أمي ، والحب لم يبتكره المطربون. لكنهم حولوه تجارياً إلى علاقة بين ثنائي

كانت الأغاني في السابق تتحدث عن الأمهات ، هذا هو الحب الأصيل المتجذر فينا ، الحب الوحيد الذي لايُستبدَل بِآخر. ولكن حين نستهلك ذلك الشق الذي لايندمِل ، لايمكننا تجاهل مايحدث. لاسيمَ حين يكون الحدث أليماً

شاهدتُ هذا اليوم فيلماً وثائقياً يتحدث عن المستشارة الألمانية - ماما - أنجيلا ميركل. فشعرتُ بإشتياق مُخيف يهيئني لموت هادىء حين رأيت في ملامحها صورة أمي. تلك الصورة التي لم أكن موجوداً فيها. هذا ليس حنيناً طبيعياً ، وليس غُنج طفلٍ ملول. بل إنه شيء آخر
عذاب ينبثق من محتوى

وأنتم أيضاً ، تتعذبون. كلما نظرتم إلى صور أمهاتكم. كلها متشابهة ، حتى لو بدّت مختلفة
أنا أعرف ما الذي يجعلني أبكي بلا إنقطاع ، حتى عندما أذهب لشراء علبة البيرة ، وأتظاهر بالضحك بعد الإنتهاء من شربها. أعرف

في تلك الصور يوجد مفهوم الحياة البسيطة التي فلتت مِنا كلياً. فأضحَت حياتنا عُقدة مصطنعة. لالزوم لها

في صور أُمهاتنا متعة الحياة وبساطتها ، بساطة تجعل حياتنا مقبولة
والمقبول مرادِف للسعادة ، لأن البسيط لايعني المُتخلِف
حذارِ أن تختلط عليكم تلك المفاهيم المتشابهة والمختلفة في آن
نحن نتآمر على أنفسنا 
فنظن أن البسيط يعني السخيف.!

الكائن البشري مثير للسخرية ، يُعقِد حياته لأنه لايرى أنها قد تكون سهلة وسالكة. لماذا نرتكِب هذه الأخطاء في التقييم؟ ومن يدري؟ 
أسأل نفسي دون أن أعثر على إجابة بسيطة. وقد تكون الإجابة البسيطة مُقنِعة ، لكنها لاتفضي إلى أي نتيجة

لقد إنقرضَ البسطاء ، وظهرنا نحن عابسين متشائمين. نتظاهر بالضبابية ونَدَعي معرفة أسرار الحياة. نظن بأننا أصبحنا مُعقدين ، بينما نتألم من كوننا مُعقدين. وهذا شيء حزين فعلاً

كنا نركض ضاحكين إلى أحضان أمهاتنا ، فإذا بهم يقبضون علينا في مكان آخر. حبسنا أنفسنا في السجون الفكرية والأسرية ، وسجون الحدود بين الدول
مسألة جاذبية إجتماعية

وحظوظ أوصلتنا إلى الإعياء المُفرِط
هذا يكفي. 
الآن أترك كل شيء
أُقسِم بالطفل في الحظيرة بجانب الماعز والبقرة
أنا حين كنتُ صغيراً

الهاشتاج
الفيس بوك
تويتر

جميع الحقوق محفوظة World News ---- تصميم وبرمجة ALRAJIHI